د . سمير محمود قديح
جميلة جدا كانت الفتاة، لذا لم يستطع الشاه، الذي كان يلتقي الطلاب الايرانيين أثناء زيارة قام بها لفرنسا، أن يفعل شيئا سوى أن يراقبها. وقام الرجل الذي كان يرأس المكتب الموكل برعاية الطلبة الايرانيين بالخارج بتقديم الفتاة إلى الشاه. أهو حب من أول نظرة؟ ربما لا. ولكن، بعد شهور قليلة كانت الطالبة ذات الابتسامة الساحرة تتزوج من الشاه، في ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، كي تصبح الامبراطورة فرح بهلوي. والأمر الذي لم يعرفه الشاه أو فرح في ذلك الوقت هو أن «لقاء الصدفة» الذي جمعهما كان من تدبير الاستخبارات السوفياتية، الـ «كى. جي. بي»، من خلال أحد «مصادر قوتها»، وهو دبلوماسي إيراني كان رئيس مكتب الطلاب الايرانيين في ذلك الوقت. وكان السبب وراء رغبة كي. جي. بي في أن تصبح فرح عروسا للشاه هو أن أحد «أقربائها الحميمين»، الذي جندته الـ «كي. جي. بي». عندما كان يدرس في فرنسا، ادعى بأن «إمبراطورة المستقبل» تملك مشاعر تعاطف قوية مؤيدة للشيوعية.
هذه إحدى المفاجآت المثيرة التي كشف عنها «أرشيف ميتروخين ـ الاصدار الثاني». وحوى الكتاب وثائق سرقها فاسيلي ميتروخين، وهو محلل استخباراتي سوفياتي انسلخ من كي. جي. بي، وتحول إلى الاستخبارات البريطانية في 1992. وقد أمضى ميتروخين أكثر من ثلاثين عاما في تصنيف وثائق الـ «كي جي بي». وبعد سنوات قليلة، بدأ يحتفظ بنسخ لنفسه خبأها في بيته الريفي بالقرب من موسكو.
وكان الكتاب الأول من أرشيف ميتروخين، الذي وصفته الاستخبارات الأميركية، الـ «سي أي.إيه.» بأنه أكبر ذخيرة من الوثائق السرية من الاتحاد السوفياتي على الأطلاق، كان قد نشر منذ عقد مضى، وتسبب في نوع من الاثارة عن طريق الكشف عن عدد ليس بالقليل من عناصر الـ «كي. جي. بي»، بما فيهم مسؤولون كبار ومثقفون ذاعت شهرتهم في أوروبا وشمال أميركا.
وتعاطى الكتاب الثاني مع عمليات الـ «كي. جي. بي» في العالم الثالث، وعلى الأخص منطقة الشرق الأوسط، وكشف عن كثير من الأسرار. وفي هذه القائمة، استناداً إلى الكتاب، كانت هناك شخصية وديع حداد، التي شكلت رمزاً للمقاومة الفلسطينية نتيجة عملياتها الشهيرة في السبعينات، والتي لم تكن تقوم بأية عمليات دون الحصول على الضوء الأخضر من موسكو. وكان لتجنيد حداد أهمية كبيرة إلى الحد الذي جعل يوري أندروبوف، رئيس الـ «كي. جي. بي» آنذاك، يكتب شخصيا إلى الزعيم السوفياتي، ليونيد بريجينيف، كي يزف له الخبر.
و قامت الـ «كي. جي. بي» أيضا بتجنيد شخص قريب من رئيس عربي راحل وأعطته اسم «منذر»، كاسم حركي، فضلا عن شخص قريب من الرئيس جمال عبد الناصر. وكان هناك «مصدر قوة» آخر قدير وهو شخصية فلسطينية كان يعتبرها ياسر عرفات «أكثر زملائه ثقة». وكانت الـ «كي. جي. بي» قد زرعت عنصراً دائماً آخر لها ومنحته اسما حركيا «جيدار» إضافة إلى هذا القائد الفلسطيني.
ميتروخين ـ 2
وعمل لحساب الـ «كي. جي. بي» «أحد الاقرباء الحميمين» لأمير عباس هويدة الذي كان يشغل منصب رئيس وزراء إيران لمدة اثني عشر عاما. وكانت اكبر النجاحات التي شهدتها الـ «كي. جي. بي»، في الجزائر ومصر ولبنان وسورية والعراق. وفي أغلب الأحوال، كان يتم اغواء العناصر المرشحة بالمال والنساء. أما هؤلاء الذين وافقوا على العمل لحساب الـ «كي. جي. بي» لأسباب أيدولوجية صرفة فكانوا أعضاءً لأحزاب شيوعية في المنطقة. وبعض القادة الشيوعيين، كانوا ضمن قوائم الـ «كي. جي. بي» الاعتياديين. وآخرون كانوا يتلقون أموالاً بصفة غير دورية، بينما كان بعض القادة الشيوعيين في جنوب اليمن يحصلون على أموالهم عن طريق ابرام عقود تجارية مع الاتحاد السوفياتي وحلفائه.
ويعد أحد أكثر الأجزاء إبهارا في هذا الكتاب ذلك الجزء الذي يتعاطى مع رئيس العراق المعزول صدام حسين، الذي كان مدعوما في البداية من البريطانيين. إلا أنه كان يحب جوزيف ستالين، الدكتاتور السوفياتي، وحاول تقليده الأمر الذي مكن الـ «كي. جي. بي» من تشجيع صدام على العزوف عن البريطانيين. والشخص الذي لعب دورا رئيسا في كل هذا هو يفجينى بريماكوف، أكثر العناصر عملا لصالح الـ «كي. جي. بي» في العالم العربي.
ويحوي الكتاب كذلك المزيد من الافشاءات التي لا يمكن حصرها في «مراجعة» سريعة للكتاب.
إلا أن قيمته الحقيقية تكمن في حقيقتين:
الأولى هي أن الوثائق أظهرت أنه في منتصف السبعينات كان الاتحاد السوفييتى قد كسب جزءاً من الحرب الباردة التي بدأت في الدول النامية. لكن تمكنت كل من السعودية وعمان والمغرب، من البلدان العربية، من المحافظة على أراضيها «خالية» من تغلغل الـ «كي. جي. بي» لأعلى المستويات.
لكن قيادة الاتحاد السوفياتي بدأت تخسر كثيراً بعد الانتصار الذي حققته، خاصة عقب الانسحاب المخزي للولايات المتحدة من فيتنام. وبدأ التيار يسير ضد السوفييت بفضل رجل واحد: الرئيس المصري أنور السادات الذي قرر التحول إلى المعسكر الأميركي بدلا من السوفياتي. وأسفر هذا التحول عن حركة لم تتوقف، حتى عندما تمت الاطاحة بالشاه، حليفه المقرب في المنطقة، بواسطة ائتلاف من الاسلاميين والشيوعيين.
والحقيقة الثانية التي تجدر الإشارة إليها هي ذلك الخزي الذي حل على كبار القادة من السوفييت، خاصة أندريه غروميكو، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية لمدة 25 سنة، والازدراء الذي لاقاه من قبل الدول النامية. حيث كانت تعنيه قوة واحدة: ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية. أما الدول الأخرى فما كانت، بالنسبة له، إلا بيادق ضعيفة في لعبة شطرنج عالمية تلعبها دولتان فقط هما الولايات المتحدة وروسيا. وعليه، فان السياسة السوفياتية في العالم الثالث، بما في ذلك إنشاء وادارة العشرات من الأحزاب الشيوعية، كانت قد تركت في أيدى الـ «كي. جي. بي». وكان جهاز اكي جي بي يلعب لعبة صعبة، باستخدامه كل الوسائل والحيل غير الشريفة، ومنها تمرير معلومات مضللة إلى الراحل آية الله الخميني، أدت إلى القبض على العشرات من أفراد الجيش الإيراني وضباط القوات الجوية المشتبه بتعاطفهم مع أميركا، كما كان مسؤولا عن الوثائق الملفقة التي أظهرت أن صادق قطب زاده، الذي كان أحد معاوني الخمينى المقربين ذات مرة، كان يدبر للتآمر على قتله كجزء من خطة قامت بإعدادها وكالة الاستخبارات الأميركية السي.أي.إيه. وتم تمرير المعلومة المضللة من خلال قناتين: الأولى من خلال العنصر الفلسطيني المهم، والثانية من خلال سفير ايراني في باريس كان عنصرا للـ كي. جي. بي. لسنوات.
متروخين ـ 3
كان لبعض حيل الـ «كي. جي. بي» الدنيئة عواقب وخيمة. تمثلت في معلومات مضللة سربت إلى دمشق، وحرضت حزب البعث الحاكم على تنفيذ حكم الاعدام في 200 أو يزيد من الضباط. وفي العراق، قام صدام حسين بازهاق أرواح أعداد لا حصر لها من الشعب بسبب معلومات مزيفة استقاها الكي.جي.بي. تصفهم بأنهم كانوا عناصر اما أميركية أو بريطانية. وفي المقابل، كانت وكالة الاستخبارات الأميركية، الـ سي آي إيه، وعلى الرغم من أن ميزانيتها كانت عشر أضعاف ميزانية الكي جي بي، إلا أنها كانت ضعيفة الفعالية، على عكس الاستخبارات البريطانية، المعروفة بـ «س. أي. س»، فبينما كان الكي.جي. بي. منشغلة بالعمليات القذرة في طهران ما بعد الثورة، كان البريطانيون منشغلين بتجنيد فلاديمير كوزيشكن، عقل الـ «كي. جي. بي» في العاصمة الايرانية. وفي النهاية، تبين وثائق متروخين ان فرح بهلوي سرعان ما خيبت ظن كي. جي. بي، بتحولها حتى أصبحت «ملكية متحمسة»، وتبين أن مشاعرها التي كانت من المفترض أنها كانت موالية للشيوعية في فرنسا، ما كانت سوى شيء طارئ.