محمد المشرف العام
عدد المساهمات : 1001 تاريخ التسجيل : 23/07/2009 الموقع : alasaalah.ahlamontada.net
| موضوع: وَطَنُنا: مَن يُعَرِّفنا بِهِ؟! الإثنين سبتمبر 28, 2009 11:25 am | |
| الكاتب عزيز العصا إذا قُدِّرَ لك السفر من شمال الضفة إلى جنوبها، أو بالعكس، فإنك تجد نفسك أمام مشهد أقل ما يُقال عنه أنك تسير في أرض طيبة، تمتاز بجمال طبيعي أخَّاذ. فها هي الجبال الجميلة المغطاة بما يسر ناظريك، ويجعلك تحلق في الأعالي.. تلك الجبال التي تنساب بهدوء لتصل بك إلى الوديان التي تعلوها صخور من كل الأشكال والألوان والأنواع، وفيها السهول الغنية بتربة، تكاد أن تقول بأن الذهب يشبهها، في الربيع تلبس حلتها الخضراء التي لا تخلو من الأصفر، والأحمر.. وفي الصيف تنزع ثيابها لتوفر المطلوب من الدفء الكافي لأن يستكمل المشهد جماله وبهاءه.
فتحتضن هذه الأرض زيتوناً، يروي قصص من غرسوه منذ آلاف السنين؛ فأكل السابقون، وسيأكل اللاحقون.. وتحتضن عنباً يتلألأ أمام ناظريك كحبات ندى رفضت الاستجابة لحرارة الشمس، وكروم العنب التي تشهد، بمنظومتها التي تشبه توزيع الذرات في البلورة، على أن الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، قد تناقلوا الحضارة كابراً عن كابر..
وهناك الهواء الذي يعانق الأشجار الباسقة ليخرجا بسمفونية الحفيف الفلسطينية الأصل والفصل.. هواءٌ منعشٌ نقيٌ يلامس رئتيك ليعيد لك المفقود من صحة وجمال، ويرسم لك ملامح مستقبل متفائل يؤكد أنك تعيش على أرض الرسالات، والخيرات والجمال والبهاء..
إن الوضع الموصوف أعلاه يدفعك إلى أن تغمض عينيك، وتحسن إغماضهما، لكي تحمي المشهد من الانجراف وسط أعاصير الاستيطان والمستوطنين، والاستعمار والمستعمرين، والاحتلال والمحتلين، والسياسة والسياسيين، والمفاوضات والمفاوضين، والبعثات والمبعوثين.. تلك الأعاصير التي تحاول اقتلاعك من ذاتك المرتبطة بتلك الأرض التي هي أمانة في أعناقنا للأجيال القادمة.
يا حسرتاه.. لم يكتمل المشهد، ولم تكتمل الجمالية فذلك الجسد مصابٌ بمرضٍ مزمنٍ، لا يشفيه إلا الإرادة والتفاني في الدفاع عنه، إنها تلك المستعمرات التي انتشرت بالمئات على طول الوطن وعرضه.. تقبع على ملايين الدونمات المستباحة من الخُمس المتبقي من فلسطين الطبيعية (الضفة)، وتضم بين جدرانها بضع مئات الألوف من المستوطنين الذين يناصبون العداء لكل ما يتحرك على هذا الأرض.
إن سَفَرَكَ و/أو تَجوالك وسط هذه الأجواء يضعك أمام كمٍ هائلٍ من الأسئلة/ التساؤلات التي يصعب طرحها، في هذه العجالة، كما تصعب الإجابة عليها وسط منطق القوة السائد منذ زمن. إلا أن هناك سؤالاً ملحاً ينتاب كل من يسافر على تلك الطريق، وهو: لماذا تبدو القرى الفلسطينية حزينة، كئيبة، خجولة؛ ترفض الإعلان عن نفسها، كما أنها مختنقة لا تقوى على التعريف بذاتها؟
لم يأتِ هذا السؤال جُزافاً، أو رغبةً في التشاؤم، أو للتفتيش عن "كبش فداء" نعلق عليه أسباب الهزيمة، والفرقة، والتشرذم، وضياع الوطن، وتهديد الهوية، أو لنحمله مسؤولية جدار الفصل العنصري الذي يتلوى بمسافة 700 كيلومتراً (وقد ابتلع عُشْر الضفة الغربية)، أو أن نتهمه بأنه هو الذي أنشأ مدينة موديعين الاحتلالية على 50 ألف دونم من أراضي الضفة.
لقد جاء هذا السؤال على خلفية أن المواطن الفلسطيني المسافر على شوارعنا يصاب بما يشبه الإحباط لعدم قدرته على التواصل مع الجغرافيا الجميلة التي تتمتع بها فلسطين. إذ أن أهم فقرة في رحلته هو التعرف على المواقع التي يمر بها كي تكتمل الصورة، ويزداد المشهد جمالية ورونقاً.. كما أن معرفة تلك المواقع، يعطي الرواية بعدها التوثيقي الجميل، ويجعل للرحلة معنى يُحفَظ في الذاكرة كما الحفر في الصخور الصلبة.
أما الواقع فيتلخص في أن عشرات القرى الواقعة على طريقك تبقى مجهولة لك، حتى لو أمضيت عمرك ذهاباً وإياباً. فأنت أَسيرٌ لتلك اليافطات، التي تُعَرِّفُ بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية، التي تعلوها العبرية بحروف عبرية يليها عبرية بحروف عربية، وينتهي الأمر بعبرية بحروف إنجليزية. عندئذٍ، تُصاب بصداع من نوعٍ خاص، اسمه صداع الوطن الممزق، وينتابك موجة شديدة من السعال الذي يشير إلى أنك قد أُصِبتَ بـِ "انفلونزا المستوطنات". فيصبح المطلوب منك، أن تتوقف مطولاً، لكي يساعدك اسم المستوطنة في اشتقاق اسم قرية في الموقع. ولأن التوقف محظور، فإنك لن تنجح في ذلك الاختبار، وسيكون مصيرك الفشل في التعرف على المكان.
ومما يُزعجك، ويضاعف من انفعالك أن المكان يفتقر لمن يُمكِنكَ أن تسألَه؛ لأن القوانين الاحتلالية المستجيبة للهوس الأمني تمنع الناس من الوقوف أو التوقف في المكان.. ومما يشعل في داخلك نيران الغضب والحنق أن القرى، القريبة من الشارع أو البعيدة، عنه تفتقر إلى أية لوحات تشير إلى اسم المكان. ففي إحدى سفرياتنا بين رام الله ونابلس، وقد دُفِعنا بِرَغبَةٍ جامِحَةٍ للتعرف على المواقع الجغرافية التي تقع على طريقنا، إلا أننا اصطدمنا بجهلنا، شبه التام، في تلك المواقع الأمر الذي دفعنا لأن نلتقط صوراً فوتوغرافية لعدد منها لكي نسأل من كان بها خبيراً!! كما بقي الكثير منها دون أن نتعرف عليه، وأرجو الله أن نتوجه المرة القادمة وقد عولجت المعضلة.
أما إذا دخلت القرية، فإن الطين يزداد بلة، عندما تكاد أن تخرج منها دون أن تستدل على اسمها، إلا إذا منَّ عليك صاحب كراج أو بقالة أو صيدلية بتسمية تشير إلى اسم القرية التي أنت فيها. وإذا تجرَّأت بالاستفسار من أحدٍ في المكان، فإنك نادراً ما تحظى بإجابةٍ شافيةٍ كافيةٍ، إذ تشير قسمات وجه المُستَفسَر منه وانفعالاته إلى استغرابه من عدم معرفتك بالمكان، فأنت ابن بلد وعليك أن تعرف كل شئ!
صحيح أن الشيطان يكمن في التفاصيل، إلا أن تفاصيل الواقع الفلسطيني المر تكاد تخلو من الشياطين، لأهميتها، ولدقتها، ولدورها الهام في تشخيص الواقع الذي يلهم المعني بإيجاد الحلول الملائمة. وإذا كان من الجميل أن ننقد ذاتنا، ونُقَيِّمَ أخطاءنا، ونصوب المعوج فينا، فإن الأجمل هو أن نضع الحلول التي تخرجنا من المأزق.
وعليه، فلنعترف بأن هناك مشكلة حقيقية في السياحة الداخلية، ولنعترف بأن السياح الأجانب يعرفون عن تفاصيل وطننا أكثر بكثير مما نعرف نحن، ليس لخلل في انتمائنا، بل لأن الأساليب والطرائق المتبعة في استقطاب السياح تتطلب أن يتعرفوا بدقة على الأماكن التي سيزورونها. وليعترف، كل منا، بأن في بلدته أو قريته أو مدينته أماكن يجهلها، أو أنه يمتلك حولها معرفة سطحية لا تكفي لأن يُعرِّف الآخرين عليها.
لم ألتقِ صديقاً أو قريباً أو بمن لا أعرفه، من قبل ومن بعد، إلا ودفعني إلى الكتابة عن الصعوبة التي نواجهها في التعرف على ما تبقى من الوطن، باعتباره الجذر الحقيقي الذي يورق على أغصانه الشأن السياسي، والشأن الاقتصادي، وجميع الشئون ذات الصلة بالتخطيط لمستقبل فلسطين الدولة، وفلسطين التقدم والنمو والازدهار، وفلسطين الهوية، وفلسطين الذاكرة، وفلسطين التاريخ، وفلسطين الجغرافيا.
أما المعيار الذي يقيس جميع هذه الاتجاهات فهو ذلك المخزون المعرفي حول الوطن. وهنا نطرح السؤال، الذي يبدو ساذجاً، وهو: هل أن الذي لا يعرف وطنه، عن قرب، قادر على أن يتذوق جماليته، ويعتز به، ويدافع عنه، ويفديه بالنفس والولد، أو أن يصنع تاريخاً للقادم من الأجيال؟
بقي أن نقول بأن وطننا يتعرض لاحتلال إحلالي-استيطاني-استعماري، الأمر الذي يعني أن حجم المسؤولية علينا أكبر بكثير مما هي على الآخرين اتجاه أوطانهم، فلا يجوز أن ندع فراغاً بيننا وبين ما تبقى من أرضنا، بما تبقى عليها من قرى ومدن وبلدات ومخيمات. وأن نبتدع الوسائل والسبل الكفيلة بجعل أسماء تلك المواقع أنشودة يرددها الأطفال قبيل النوم وبُعيد الصحو، وأن نرددها نحن أمامهم، لكي يتذوقوا معنى الوطن.
لكي تكتمل الصورة في الذهن، ولكي تُحفر في الذاكرة، فإنني من هذا المنبر الإعلامي أتوجه لمن يهمه الأمر، وبخاصة وزارة الحكم المحلي، ووزارة السياحة، والمجالس البلدية والقروية أن يضاعفوا اليافطات التي تُعرِّف بقرانا ومدننا وبلداتنا، وأن يبتدعوا الأساليب والطرق المختلفة التي تعرف بمواقعهم، وبأكبر قدر من البيانات والمعلومات التثقيفية-التوعوية، لكي يصبح للسياحة الداخلية معنى يعزز الانتماء للوطن بجباله وسهوله ووديانه، وبقراه ومدنه وبلداته ومخيماته. أما وزارة التربية والتعليم فمن المعروف عنها أنها تبذل الجهود في رفع مستوى الثقافة الجغرافية من خلال البرامج التربوية المختلفة، المسابقات، والرحلات الاستجمامية-السياحية-المعرفية لأبنائنا الطلبة ليتعرفوا خلالها على جغرافية وطنهم الذين يقع على عاتقهم الدفاع عنه والذود عن حماه.
فقرانا ومدننا وبلداتنا ومخيماتنا هي منتزهات تستوعب أبناء الوطن الزائرين، وتأخذهم بأحضانها المليئة بالدفء والحنان، وتحدثهم عن قصص من مر عليها من خيرين، عَمَروا الأرض، ونشروا فيها العدل فبقي ذكرهم، ومن شريرين استباحوا الحرمات، ومارسوا الظلم والعدوان فأخذهم الخالق، جل شأنه، أخذ عزيزٍ مقتدر.. وتأتي هذه الدعوات على قاعدة أن الوطن ليس ملكاً ورثناه عن الآباء والأجداد، وإنما هو أمانة في أعناقنا علينا أن نؤديها للأجيال القادمة، على أجمل صورة.
العبيدية، 21/أيلول/ 2009م
البريد الالكتروني: a_alassa@yahoo.com
| |
|